القائمة الرئيسية

الصفحات

الكاتب أحمد بو قراعة فُؤادُهُ في غير ما يرى


مجلة همسات الأقلام العربية




فُؤادُهُ في غير ما يرى

نهض باكرًا كعادته.أفرجَ عن شبّاكيْ النّافذة .تاتي أُويقات الفجر بنسائم لطيفة تُحصِّنُ شاربها من ريح النّهار و غُبارهِ و صخبِهِ .قلبٌ شابٌّ يَتَشَرّبُ نسائم رقيقة و نظيفة يزرعُ بهَا الحياة في جسد متعب و منهك .جسد هبَّ و دبَّ و بدأ المسير يُعْييه و يتعبهُ و يُثقِلُ عينيه و يديهِ و ركبتيهِ .

اكتسب عادة الوقوف إلى النّافذة حديثا ،عادة مكتسبة منذ صار يقيم في هذه البناءة العالية في هذه الطريق الطّويلة المتراصّة بالبناءات المتجاورة و المتقابلة .بناءات متحاذية و متقاربة و متواجهة تحُدُّ من مدى البصر و تجبره على الإرتداد و تكرهه على قصر البصر ، و تمنع عنه الأفق الرّحب ،أفقٌ يراه و يرضاهُ رغم الأتربة ، و بالرّغم من كلّ ما كان يزعجه أو يؤلمه أو يضرُّهُ من ريحٍ ذات غبارٍ و حمّالةِ مفاسد يثيرُها أسيادُ النّاس و علِّيُوهم و أقبضهم يدًا على أعناق البشر و الشّجر.

نسائم ما زالت خفيفة و نظيفة تمرّرُ راحتها النّاعمة على الطّريق الفارغة من كلّ صوت و دبيب .نسائم لم يخالطها بعدُ ما تفرج عنه النّوافذ و الأبواب و الأفواه .فهي نقيّة و تقيّة ما لم تُفْتحْ نافذة أو يُعَرّج باب أو يَلْغط فم أو تتعثّر قدم.

ظلّ الرّجل واقفا إلى نافذته يرْمي بصره إلى آخر الطّريق كمن يخلّص البصر من المحدود و الضيق .فجأة أُزيح ستار عن نافذة مقابله و ظهر خلف بلّورها جسد يُسَرِّحُ ذراعيه و بُمدّدهما في الهواء كسلا و إعياء كالمستلذّ ارتخاءً لا يريد أن يَطْرُدهُ عنه.لم تكن نافذة تُفتَحُ في مثل هذا الوقت .نظر فلم ير إلّا جسدا يحاول أن يستفيق و لم يُبْصِرْ سوى يدين تسرّحان شعرا طويلا كأنّما الرّيح كانت به تعْبَثُ . اجتهد محدِّقًا لعلّ ذلك الوجه قد يَبَان له .و انار غرفته فرأَتْ المراة منه ذلك فانتبهَتْ غير متراجعة و حدّقتْ فيه كما حدّق فيها و أنارت غرفتها .إنّهُ يَعْرِفُ ذلك الوجه الجميل و يعرف ذلك الشعر المذهّب الطويل المتهدّل على الكتفين .

واختفتْ المرأة لحظة لتظهرَ من جديد و وقفت تنظر إلى الرّجل وهي تجمع شعرها كُبَّةً لتلفُّهُ في خمارٍ أسود ثُمّ وضعت لباسًا يُلائم خمارها فأسدلت ظلاما على ضياء و لم يعد يظهر منها سوى رمش عين ثمّ نزعت سريعًا كلّ ذلك لتبدو من جديد في قميصٍ يكاد لا يستُرُ شيئا . حدّقتْ عينٌ في عينٍ وارتوى نظرٌ من نظرٍ و غارتْ لحظةٌ من الزّمن في الزّمن الماضي البعيد.

و سدّ الرجل النافذة و غلَّقها و أطفأَ النّور و سحب كرسيًّا ليجلِسَ قِبْلَتُهُ نافذة المرأة صامتًا لا يتحرّك ليّنَ الأعصاب مرتخي العضلات .

-أنا "العَرْبي" و النّاس ينادونني "الفَرجَ".وقد يجمع البعض الإسمين ترتيبا و منهم من يقدّم الثّاني عن الأوّل.و ضحك الأب ضخكة المستهزىء المملوء غيضا و حنقا و تكبّرا و أغمض عينا لينظر بمؤخّرة الأخرى قائلا لمحبٍّ مثلي

-"إن كنتَ أنتَ الفرج فما الذي في أمّها و فيها قد يكون ؟"

و هل أحتاج أنا "العرْبي"إلى عقل كي أُدْرك بسرعة أنّي مُحْتَقَرٌ .طلبتُها و أطْلبها و راغب فيها مقيمة ٌ فيَّ و ساكن فيها .الأدب لا يقف ندًّا للمال و المعرفة لا تطاول المكانة و النّفوذ و الشعر و المقال لا يرتعان في هذا الكبرياء المقيت .لا غرابة فهذه الطّبقة تلوي كيفما تشاء رقاب الألفاظ لتنحو بها إلى مسالك القبح و أحاديث الهمج و سمّار الحوانيت الفاسدة عقب اللّيالي الرّديئة .إنّها ذلك و كذلك و لو تحلّت و تزيّنت و تجمّلت و ألبست خداعها التّهذيب .مغدورة معذورة و أنّى لهذا الجمال بمجابهة هذا العتوّ وأنّى لهذه الخضرة اليانعة أن تقف في وجه المصيف و الحرّ و اليبسِ .ساكنة كالمتفرّج فؤادُه في غير ما يرى و عينه غائمة".

و تراءى له وجه أبيه يحفّظه القرآن و يعلّمه آداب الجلوس و الأكل و المحادثة و يحبّبُ إليه استنبات المرعى من التّربة لتحيا الماشية .ويقبض على حفنة التربة فيشمّها بقلبه فيعرف مقدار حاجتها من الماء ."يا بنيّ حيًّا ما دمت تُحييها "واستمع إلى صوت مؤدّبيه و معلّميه يحفّظونه الشعر و الأدب و يبيّنون له الطّرائق و يرغّبونه في الفضائل "أيّها الفتى توسّع في قول أبيك"

و أُطرِدَ من المنزل الفاخر مصرًّاعلى حبِّها و جمعها في قبضة يده كما كان أبوه يقبض على حفنة التّراب فيشمّها بقلبه.

"و عنْ أيّ ماء قد أفيض فَأُحْييها .نظمتُ في حبّها شعرًا و كتبتُ إلى والدها بي و بها رأفة و رحمة و بناء لكيان آدميّ يحبُّ و يفكِّرُ ،هل أخطأتُ حين أنْطقْتُ الحرف نقدًا و جلاء عيوب فَحَصَرنِي أبوها و أصحابه و أتباعه في ركن لا هواء فيه فَأَسْكُتُ حينا و أَهِيجُ أحيانا حبًّا فيها و هوى "ماالذي يستطيع فعله مُحبٌّ تربّى في نصيحة والده و معلّميه و ليس له سوى حروف يؤلّف بينها فيُحْسنُ تارة و قد يُخطِىءأحيانًا ،و ليس له غير لسان يتحرّك في كلّ الجهات فيُمسكه طورًا و تظطرُّه نفسُه أن يُطْلِقهُ مرارًا و مرارًا فيما يرى و يرغَبُ فيه. أأحملُ خنجرا أُقاتل به حاكمها و محكم يدهُ عليها ؟

و ظلّ الرّجل جالسا إلى النّافذة المغلّقة لا يتحرّكُ يجول بصره في أنحاء الغرفة المظلمة كأنّما العين تبحث عن شيء يسافر به إلى أنحاء أخرى و يرحل إلى أزمنة تولّت فيدفع صدره إلى الأمام كالنّافخ فيه فيعلو لترتخي رأسه إلى الوراء "أصدري ضيّق لم يسع غيرها ، أهي النّساء جميعا و سواها كذبٌ ،أصدري فسحةٌ لها و ما نَبَتَ فيها من شجر و ما رصّفَ من مرمر و حجر و ما ظهرت فيها من فسيلات تريد أن تكبر دون أن تقطعها يد عاتية و متجبّرة ،يدٌ تريدُ أن تستاثر لنفسها بالماء و بالهواء و تقبض بأصابعها اليابسة على الرّؤوس فتعصرها و تؤلمها و تغرز اظافرها في الفؤاد و في الحسّ فتدميهما .

ما كنت أريد سوى ماء عذب و هواء نقيّ يغذّيان فكرًا طليقا و نفْسًا منْعتقةً و سابحةً .كم قبّلْتُها بالشعرو لثمتُ فمها بالمديح و زيّنْتُ خصلات شعرها بالنّعوت نكم كنت بارًّا بها حين غرزت ناب قولٍ في حاكمها و القابض عليها فتضحك كالأمِّ المغلوبة ترى في صغيرها سندًا و ترى عصارة ثديها تَخْتَمِرُ لتًُسْكرَ أو تُهَيِّجَ الغضب .حتّى التربة التي قد تعلق بها لقد نفختُ عليها من عشقي فغسلها و طهّرها .إنّها مدينة جميلة و تزْدان .و كلّ ما يلقى في شوارعها أو أطرافها من أوساخ و أقذار فسرعان ما يزهر فيها الشّجر فيعْبقُ قلبها و سريعا ما يهطل المطر فيحمل ما تكدّس و يُلقيه بعيدًا .في كلّ مدينة شجر قد أزهر و يُزهرُ و لو عبثتْ بالرّحيق أياد ماكرة و في كلّ مدينة مطرٌ قد هطل و يهطلُ و إن حالت دون مجراه رؤوس كبيرة مسطّحةٌ عيونها تأكل السّماء و الأرض و عصاها تلقف كلّ خير كعصا موسى ، في كلّ مدينة قلبٌ مُحِبٌّ يجادِلُ قلبًا آخر من حجر الصّوان .و ما بين هذه المدينة الجميلة و بين هذا القلب المحبّ شبابيك من حديد .كانتْ مدينةً تُؤْنِسُني تَحَجَّرَ قلْبُ ماسكها و تيبَّسَتْ قلوبُ أصحابِهِ .ليس لي سوى قلبٍ يُحِبُّ".

مضى على الرّجل "الفرج العربي" زمن قصير ساح و تاه فيه .و أزال السّتار يريد أن ينظر من فتحات خشب الشبّاك كالخائف يتوقّعُ خطرًا .أبصر فإذا نافذتها مفتَّحَة ورأى خلف زّجاج بلّورها الأبيض الصّافي و السّميك رجالا يبدو أنّهم يتهاوشون كالكلاب السّائبة و يتهار ُّون كقطط المزابل ، وحصر النّفس في صدره و مدّ رأسه إلى الشّارع السّاكن إلّا من بعض أصوات عصافير المباني التي كانت تبدو مزعجة كأصوات الرّعد المنفلق في الرّؤوس .و بدا كمنحوت ثلج باهتٍ في صقيعٍ لاذعٍ يحاول الإصغاء فما التقط سمعه حرفًا فسبّ الزجاج و كاد يقول في صانعه وواضعه .اجتهد يحدّق في الرّجال فإذا هم خليط لا يجتمعون إلّا يوم جمعة فرضٍ حضورٌ لا هَوَشَ فيه أفسدَهُ اختلاف في حياةٍ .فتناثر بصاق لحية و صاح وجهٌ محسّنٌ و بينهما وجهٌ أمردٌ نافرٌ غاضبٌ و تشابك الشّرع مع الحياتي لِيَنْتَفِضَ المُستجدّ.

استعصى عليه فهم ما يرى خلف الزّجاج و غدرت به الإشارات و هَزَّ الأذرعِ و تلاصقِ الأجسادِ و تدافعها ،فما حيلَ إلى موضوع .فصاحب اللّحية شيخ بدين طويل اليدين ،عريض الكتفين ،غليظ الأصابع ، جاحظ العينين ، منفوخ الشّفتين ،أفلجٌ ،بارز الأسنان يبدو و أنّها من عاج أنياب الفيل ،يمسك بيديه خمار المرأة و محرمتها و يعضّ بأسنانه على نقابها و يشدُّ تحت ذراعه على إزارها و يضع على كتفيه حِزامها و يقبض بين فخذيه على محرمةِ رأسها منتَصِبًا جملا قد هدرَ كمن يكرِهُ المرأة على ذلك وهي واقفة جسدًا رشيقًا متناسِقًا جميلا غضّا يانعًا مزهِرًا تنظر بعينٍ. تريدُ أن تبتسم للحياة .و يحولُ بين الشيخ و المرأة رجلٌ يدانيه عمرًا لكنّهُ رقيق أملس الوجه مجعّدُ الخدّين أنيق اللّباس كالمدعوّين إلى أفراح ذوي الجاه و المال متجمّلين متعطّرين متهذّبين يدفَعُ بيديه الضّعيفتين حامل الإزار و متأبّط الخمار عن المرأة و يقف بينهما حاجزًا فترتفع الأيدي و كادت تتشابك فيسقط ما كان بين فخذي الشّيخ البدين فيدوسُهُ الاخرُ بقدميه.ووراء الّشيخ منهما أناسٌ مختلطون يتصايحون و بهم لغطٌ .وجوهٌ لا تدلُّ على نعيم قولٍ و حركات تشي بالتّنافر و الخصام و كلّما أراد أحدهم اكراه المرأة على لباسٍ تقدّم الآخر ينْزعه عنها ليكسوها غيره فمنه المسودّ ومنه الرّمادي و منه الملوّن المزهر و منه ما يلائم وجهها ذهبا وعينها خضرة و قدّها مقاسًا و زينةً ، والمرأة في كلّ ذلك تنظر فيهم بعين تريد أن تبتسم للنّهار و بعين أخرى تكاد أن تفصح عن غضبٍ .

وانفرجت بقية الفجر عن تباشير الصّباح و خفتت أصوات العصافير لتنطق أصوات بشريّة فمنها السّعال و منها الكحّة و البحّة و منها "يا لطيف الطف بنا"وغلّقَ الرّجال النافذة و أحكموا الشّبابيك.

و ظلّ الرّجل ينظر باهتا "ماالذي أوقع المرأة الجميلة التي كان يحبّها منذ شبابه الأوّل بين هؤلاء القوم ،ليس القدر طبعا .القدر بريء ،أيّة أحداث ساقت هذه الأكرُع و هذه الوجوه المختلفة إلى المرأة ؟وهذه الأحداث ما أحمقها ألم تلد سوى هذه العيون القاتمة و القاسية و الألسن الكاذبة و أخفاف الجمال و سنابك البغال...."

ظلّ الرّجل و تاه فترك الغرفة إلى الشّارع فإذا به يبصرُ القوم في الطّريق يتجادلون بصمتٍ و بإيماءاتٍ لا توحي بانسجام و المرأة وراءهم تكاد تتعثّر رصينة الخطا ثقيلة المشية ترتدي خضرة البساتين غير أنّها حافية القدمين يدميهما الحصى و يقرّص عينيها البرد .فالتفتت إلى الوراء فأبصرت عاشقها الأول و كادت تعود إليه قافلة فأسرع نحوها حتّى لا تتراجع فهمس في أذنها فضحكت و أزهرت و أينعت واخضرّت ثمّ قال بصوت مسموع "لقد جبتُ الأرض فأنتِ أنتِ ..و رغم هذه الفتنة بين ذراريك ما زلت مؤْنِسَتِي أنا ومن أخذتُ عنهم و من اتّبعوا سبيل حبِّك أيضا".

الكاتب أحمد بو قراعة 

تعليقات

التنقل السريع