القائمة الرئيسية

الصفحات

أقصوصة للكاتب التونسي أحمد بو قرّاعة


 "أَلِحَبَّاتِ أَرُزٍّ"

نزلنا صباحاً بمطارِ "بيكين" العظيم .لم أدرِ كيفَ ساحتْ قدِمي من بابِ الطّائرة إلى زجاجٍ يفصلُ بيني و بين عونٍ جمعَ نظرهُ في وجهي و في جوازِ سفري ، فختمَ فابتسمَ فحيَّى برأسهِ المكوَّرةِ الصّغيرةِ .كنتُ أراقبُ قدمَ صديقي فإذا تحرّكَ قليلاً وضعتُ قدمي حيثُ يضعُ فإذا نحن نمشي وقوفا .ولولا حياءً مسكتُ ذراعهُ. لقد كنتُ خائفًا من قدمي أن تزيحَ فتركبَ بساطا متحرّكا غير الذّي يحمِلُنَا فأضيع في الزّحام و ليس لي لسان أسألُ به ، و أين لي بعينٍ تستطيعُ رصد هامة ٍقصيرةٍ في خلقٍ كثيرٍ متحرِّكٍ تحمِلُهُ بُسُطٌ في كلِّ الجهاتِ، و خُيِّلَ إليَّ أنِّي أسيرُ فوق رؤوسِ المسافرينَ و أنَّ غيرَهمْ يسيرُ فوق رأسي .تتقاطعُ السّبُلُ و تعلُو و تهبِطُ دون أن تتصادم الهامات ِ.

زحمةٌ منظّمٌةٌ صامتةٌ .لم أرَ شيئاً جامداً لا يتحرّكُ و لم أستطعْ أن أملأَ عيني بنظرٍ أو بمشهدٍ أو بصورةٍ فأَصِفُ ،لكنّ عيني ما وقعتْ على شيء إلا رأتهُ مُرَتَّبا و مُرَتَّبَةٌ له الوضائف و الأدوار.و ما أبصرتُ شيئًا إلّا جاءتني من عندنا أشياء مشوّشةٌ و ضعيفةٌ و مهزوزةٌ كصناديق القمامةِ الفارغةِ تحفُّ بها أكياس الكساحة ِ و الزُّبالةِ و القاذوراتِ.و غاصتْ نفسي في قرون من البداوة و الجلافة و الضّياع و المشيِ بكراع و حافرٍ.و خُيِّل إليَّ أيضًا إذا نظر في هامتي مسافرٌ نظرةً عابرةً أنّهُ يُحدّقُ فيَّ فيرى مخلوقا غريبًا وجههُ إلى الشّمال و رجلهُ معقوفةٌ إلى الجنوب فأسترشدُ بصري فإذا هما سالمتان سليمتانِ قد انتهت بهما السّياحة إلى باب المطار الخارجي و قد خلتُ الزّمن ساعةً و إذا الدّقائقُ معدودات.وانفتح صدري عن وهجٍ و كأنّ الصدر كان منفوخًا أو مغلّقًا مكتوما و مختومًا .وتسلّل لساني من غاره ليقول لصديقي 

-أثمّة لافتة في هذا المطار مكتوبٌ فيها الكلام ممنوع

فابتسم و كأنّ الضّحك أيضا ممنوع و قال بصوت خافتٍ 

-هؤلاء قوم يعملون و لا يتكلّمون و يتحرّكون و لا يصيحون ،ايديهم إلى عقولهم و ليس إلى أفواههم أو فتحاتِ سراويلهم

فعرفتُ مقاصد يشير إليها. 

أتعبني سهر اللّيل فنمتُ إلى ىخر النّهار في غرفة ضيّقةٍ بها سريران إذا نفخ صديقي نفخة المصدور لفح وجهي وهجُ نفْخِهِ فأديرُ وجهي إلى الحائط أو قد أشعرُ بقدمهِ تهمزني أزعجهُ شخيري.

جنَّ اللّيل و ما رأيت قمرًا أو نجمًا أو ظلمةً. أضواءٌ نهارٌ ساطعةٌ. واصطحبني صديقي إلى مطعم به ناسٌ كثيرونَ .و جلسنا إلى طاولة صغيرةٍ .كان الآكلون كالسرّاقِ يتهامسون .فلا صخب و لا ضجيج.وجاءنا عامل بطبق واحد عليه من كلّ أكل زوج:صحفتان بهما أرزّ بفاكهة ، عودان رقيقان قصيران مغموسان في ذلك الأرزّ،و إلى جوار ذلك خضرة و أعشاب مقطّعة ما أدري لها أصلا أو جنسا ، يحاذي ذلك طبقٌ صغير به لحم مبروم كالأصابع يجاوره كأسا ماء.سألتُ صديقي عن اللحم فقال:سمِّ و كُلْ . فقلت :ما أذكر عليه اسم الله إلّا إذا عرفتُ .فقال مستهزئًا :إنّه لحم ثعابين .فعافته نفسي و لو كان لحم غزال .و أدنيت إليَّ صحفة الأرزّ و مسكتُ العودين فما طاوعني عودٌ .و نظرتُ في النّاس فإذا بهم خفّةُ استعمال و حذقٍ ،و كذلك صديقي مثلهم يفعل و يبتسم .و جيءَ بالعامل فتحادثا قليلا و عرفتُ أنّه يطلثبُ لي ملعقةً لا سبيل إليها .فتركتُ العودين واحتميتُ بسنّة النبيّ (ص)، و لم أكن أحذق بها مثل ذلك الطّعام .فصرتُ أُكوّرُ اللّقمة فينزلق الأرزّ بين أصابعي و يتساقط بعضه على الطّاولة . وخيّرتُ نفسي بينَ حَياءٍ فجوع أو بين دسِّ رأسٍ فكفافٌ ،فاختارتْ ما يصل فمي.

و مرَّ ذلك العاملُ إلى جوارنا فتسمّرَ و كادت عينه تقبِّلُ الطّاولة ،و رأيتُ في وجهه الإستغراب و التعجّب و الغضب .فأومأتُ مسرًّا بأنّي منظِّفُهَا فضحك صديقي ضحكةً جلبتْ نحونا الأعين .فذهب العامل مسرعا و عاد بآلة حاسبة خلتهُ يستنهضنا للدّفع و المغادرة . و بقي يتأمّلُ الأرزّ المتساقط على الطّاولة و كأنّه يحصيها و ينقرُ الآلة نقرًا سريعا ثم يلتفتُ إليَّ نظرة المعدوم المسكين إلى ولده العابث .و حاور صديقي حواراً ما فهمتُ معناه ثمَّ انصرف .

و لمّا تركنا المكان سألتُ في ذلك صديقي فقال:كان الصّيني يقول:لو أساء كلّ صينيٍّ إساءة رفيقك لجاعتْ ألفُ دجاجة في اليوم ،واحصِ ذلك في الشّهر و في السّنة و الدّجاجة عندنا طعام عشرة أشخاص في اليوم.فأصابني الخوفُ و الذّهول .

تعليقات

التنقل السريع