حب فوق الرمال
الكاتب عبد الرحيم بنمرزوق
الجزء الأول
لم يبقى هناك إسم إسمه أنا ، أجد نفسي أمام حروفك ، إني قد إنتهيت أو على وشك النهاية .
هذه هي بداية روايتي مع الحياة . أنا قد إنتهيت أو على وشك النهاية،في ريعان شبابي، كان حلمي هو إرتداء تلك البدلة الرمادية المزركشة، كانت لا تفارقني صورتها، وأحلم بها كل ليلة، فقررت أن أحول هذا الحلم إلى حقيقة. إنقطعت عن الدراسة، وجهزت رحيلي لأصبر أغوار حلم يلازمني، فحملت حقيبتي وكل ما يلزمني، والتحقت بالمدرسة العسكرية كتلميذ في ضباط الصف للدبابات بمدينة سيدي سليمان وتحديداً في شهر أكتوبر، ومن هنا بدأت رحلتي لتحقيق حلمي وربما تحقيق ذاتي، فغالباً تحقيق الحلم والذات يتلازمان، أقول غالباً وليس دائما.ً
أخذت القطار من مدينة فاس، العاصمة العلمية للمغرب، وتوجهت صوب مدينة الرباط، العاصمة الإدارية، وكان هذه أول رحلة في حياتي وأول مرة أغادر فيها منزلنا ، أحسست بشعور غريب، فرحة تمتزج بخوف ورعب، وفي نفس الوقت لم ترمش لي عين، رغبة في اكتشاف العالم الجديد خارج بيتي وقريتي، إنه عالم مختلف وواسع، ولكن تملكني الحنين إلى بلدتي وأنا ما زلت في طريق تحقيق حلمي، تضاربت في رأسي ذكريات أثثت كل شبر في بلدتي، وجع وحزن والدمع أبى أن يهطل من سمائي، وأنا الذي كنت أظن أنني سأفرح كثيرا لما أترك القرية ورائي، ولكن لا مفر، وهذه بداية فقط، وما وراء هذه البداية كله مجهول، وأنا أدخله بطيب خاطر. إن ألم الفراق لا يفارقني طيلة شهوري الأولى، وكم من مرة حاولت أن أخمد النار التي في داخلي ولكن فشلت، مما أثر علي كثيرا، وأثر على التدريب الذي كنا نقوم به في "غابة المعمورة"، كنت أحس بالتعب والأرق والقلق رغم وجودي مع العديد من الأصدقاء، والذين حاولوا مآزرتي، ما زلت أتذكر تلك الأيام المريرة، وتلك الأسئلة التي تتخبط في داخلي، هل فعلا أحسنت الاختيار؟ هل فعلا هذا هو الحلم الذي كان يراودني؟ كنت وحيدا محاصراً بين وضع جديد وتمارين قاسية، وبين أسئلة قد أجد لها جوابا وقد لا أجد نفسي ضمن هذه الأسئلة، وأنا وحيد ولا أحد أستطيع أن أشكي له همومي، ولا أحد يرشدني، فقط الألم والإحساس بالضياع، فوجدت أن الحل هو أن أصبر، أو أرغم نفسي على الصبر، وأن أتأقلم مع الوضع الجديد، حتى خواطري تتلخبط ولا أجد لها قرارا، هنا تدخلت تنشئتي الأسرية، وبدأت أموه نفسي، وأقول ما كنت أسمع الناس يقولون، أن الأيام ستمر مسرعة، والعمر ينقضي، والقضاء والقدر بيد الله، كل هذا كان يتصارع في داخلي وأنا وحيد، أعيش هواجسا لا تفارقني، وكانت ظروف العيش جد صعبة، ربما هي فرصتي كي أغير نمط عيشي، ربما هي فرصتي من أجل لقمة العيش، لا أعرف، أعيش في متاهة لا أظن لها نهاية، يا ليت الزمان يعود إلى الوراء! هذا ما كنت أتمناه في تلك الفترة، عساني أصحح أخطائي، وأرتب دفاتر ذكرياتي التي تركتها مبعثرة منذ مغادرة المدرسة، كنت أدون فيها كل همومي، وكل ما أفكر فيه، وكنت أكتب حتى حياتي التي أحس أنها سرقت مني، أو أنها ضاعت مني، أو أنها هربت وأنا أتبعها محاولا أن أقبض عليها وأعض عليها بالنواجذ. كانت الأمور تسير عكس رغبتي، وكنت ملزما على الانضباط والمثابرة وتحمل المسؤولية من أجل لقمة العيش، ولم يعد للوقت قيمة في حياتي، أصبحت كآلة لا تعرف إلا العمل وتنفيذ الأوامر، وعليها ألا ترجع إلى الوراء، هكذا أصبحت، كأن جسدي أفرغ من الحياة ، وبعد سنتين مرت من التداريب العسكرية، كلمح البصر توجهت الى الصحراء المغربية، وكانت المعارك في أشد زمانها ومن هنا تبدأ قصتي مع الحياة. ومن أغلى الذكريات التي لازلت أحتفظ بها منذ أيام الحرب في الصحراء المغربية ناحية "الزاك"، قصة حب غريبة الأطوار، وفيها معاناة وألم، وكانت في عهد ما يسمى ب "حرب الرمال". بطلاها صديق اسمه محمد، خريج المدرسة العسكرية، شاب ذو خلق طيب، لا يتجاوز التاسعة عشرة من عمره آنذاك. وفتاة من جميلات المناطق الصحراوية المغربية، مازالت في ربيع شبابها، لا يتجاوز عمرها السادسة عشرة، وهي من قبيلة "الركيبات"، إحدى القبائل الصحراوية المحافظة. كنا بين اللحظة والأخرى نزور قرية "لبويرات"، وهي قرية قليلة السكان وتوجد بها عشرات الدكاكين، والتي تبيع كل ما يحتاجه الجنود في حياته اليومية. كنت أرافق صديقي محمد هذا إلى أحد الدكاكين هناك، والتي اعتاد صديقي التعامل معه، غير أن مشيته تتبدل كلما اقتربنا من الدكان، وأحس به كأنه يتعثر في خطواته، وصلنا إلى الدكان، وإذا بي ألمح فتاة رائعة الجمال كأنها وردة انبثقت من تربة مبللة في صحراء ساحقة. "فاطمتو" هو اسم هذه الفتاة الجميلة، والتي زينت المكان المكفهر، وكأنها قمر ينير ظلمة المكان، أو كأنها الشمس التي جاءت تطارد كل ليالينا في هذه الصحراء. كانت "فاطمتو" لها معاملة خاصة مع صديقي "محمد"، وتحاول أن تخفي اهتمامها به خوفا من أن يداع سرها في القبيلة، لكن وجهها ومشيتها وكل شيء فيها يكاد يفضح هذا السر، و"محمد" كذلك، وبحكم القانون العسكري، والذي يمنع الحديث مع المدنيين، يجاهد كثيرا في إخفاء هذا الحب. ولكن صديقي "محمد"، لم يستطع كثمان حبه، ويحدثني عنها كثيرا، وفي المساء، وعند غروب الشمس، كانت "فاطمتو" وبعض صديقاتها يقمن برعي الماعز، وتقترب من مكاننا فتنادي من بعيد على "محمد" لكي يعينها على إرجاع معيزها عندما يبتعد عن مكان الرعي، يفرح "محمد" لهذا النداء الأنثوي الذي يهز المشاعر، نداء قد يكون أحلى من نداء الوطن، يجري "محمد" وراء الماعز، ويتمنى أن يطول هذا الجري، والابتسامة لا تفارق محياه، يجري ويسرق النظر إليها وهي تبتسم أحيانا وتقهقه أحيانا أخرى، والماعز يجتمع مرة ويفترق مرة أخرى، ويختلط بالمعدات الحربية باحثا عن الخبز اليابس، سرعان ما يسود الصمت عندما تتوقف قهقهات "فاطمتو"، وتغيب الابتسامة، فألمحها تسرع نحو "محمد"، قد وصلها للتو خبر أن العدو سيقوم بهجوم ليلي مباغت، فأخبرته، وغابت كضبية صغيرة بين رمال الصحراء، تحاول الإفلات من وحش مفترس، أو كأنها أرهقها العطش فتراءت لها بركة ماء قد تكون سرابا. فررنا جميعا، نرمي خطواتنا في حلكة الليل، فدخلت إحدى المغارات المجاورة للقرية، والتي كانت تبعد عن "لبويرات" ببعض الكيلومترات.
تعليقات
إرسال تعليق